لا تنخدع بالكلمات المُنمقة، ولا الأفكار السطحية عند الحديث مع المُنحطين المدافعين عن الرأسمالية؛.
وكما يقول الشاعر (عز الرجال عصعوص): “لا تنخدع بالمظاهر، ففي السهول المنبسطة تامة الإنبساط، تبدو أكوام التراب كالجبال الشوامخ”.
تأليف: روجيه كارما
ترجمة: العبدلله
إن كنت تقرأ ما يكفي من مقالات (كارانت أفيرز)، أو كنت تُولِّي اهتمامًا لشؤون العالم على أقل تقدير، فقد تجد أن لديك انطباع بأن هناك بعض المشكلات الخطيرة. عندما يغرق اللاجئون السوريون في مياه بحر المتوسط، ويعيش الفلسطينيون في سجون كبيرة مفتوحة، والأطفال اليمنيون يتضورون جوعًا (أي أولئك الذين لم يُقتلوا بالأسلحة الأمريكية)، ويتناقص متوسط العمر المتوقَّع في أغنى بلدِ في العالم، ويمتلك ستة مليارديراتٍ ثروةً تفوق ما يملكه نصف البشرية، ويقترب العالم لمستوىً من تغيرات مناخية ستخلف بلدانًا بأكملها تحت الماء، وستترك ملايين النازحين والمُشردين، وسيُدمر ثلث الإنتاج العالمي من الغذاء – قد تبدو الأمور سوداوية وقاتمة جداً. احتمال أن تجد نفسك وقد صار لديك إغواء أخير لاقتراح شيء في غاية السهولة، وهو أنه يجب علينا أن نجرب شيئًا مختلفًا وجِذريًا.
لكن لا داعي للقلق، فأنت مخطىء لحسن الحظ، فقد زعمت مجموعة شجاعة من المليارديرات، والصحفيين وعارضي تسريحات الشعر، ومعلموا التأمل المتمرسين أصحاب عباءة العلم والمنطق، زعمت تلك المجموعة بأن العالم في الواقع أفضل بسنوات ضوئية من أي وقتٍ مضى. يبدو للجميع أن الأمور تزداد سوءًا، لكنّ الحقائق العلمية تقول خلاف ذلك كما أن البيانات تُشير إلي أن الأمور منتعشةٌ إلي حدٍّ كبير.
أنا لا أريد الإساءة لهولاء الأفراد -كما أن المترجم يحاول أن لا يسب لهم مائة ملة ودين- لكن بعد كل شيءٍ، ليس من المقبول وضع الكلمات في أفواه الآخرين (إن لم يكن بالطبع هؤلاء الناس فقراءً، يتضورون جوعًا، سُمْرً البشرة وأنت تخبرهم كم هي رائعةٌ حياتهم أو تضع الأكاذيب في أدمغتهم أو على ألسنتهم). لذلك، دعونا نسمع من واحدٍ من هؤلاء مباشرةً:
«في الماضي كان كل شيءٍ أسوأ. على مدار 99٪ تقريبًا من تاريخ العالم، كان 99٪ من البشر فقراءَ وجائعين وقذرين وخائفين واغبياءَ ومرضى وقبيحين ولكن في المائتي عام الماضية، تغير كل ذلك. في جزءٍ صغيرٍ فقط من الوقت الذي قطعه جنسنا البشري على هذا الكوكب، أصبح المليارات منا أغنياءَ فجأةً ولديهم تغذيةٌ جيدةٌ ونظيفةٌ وآمنةٌ وذكيةٌ وصحيةٌ، وحتى في بعض الأحيان جميلةٌ. حيث كان 84٪ من سكان العالم يعيشون في فقرٍ مدقعٍ في عام 1820، وبحلول عام 1981، انخفضت هذه النسبة إلى 44٪ والآن، وبعد بضعة عقودٍ فقط، أصبحت أقل من 10٪. إذا استمر هذا الاتجاه، فسيتم قريبًا القضاء على الفقر المدقع الذي كان سمةً دائمةً للحياة: أهلاً بكم، بتعبيرٍ آخر، في أرض الوفرة.»
Utopia for Realists: How We Can Build the Ideal World
by: Rutger Bregman
المدافعون عن الرأسمالية العالمية مهووسون بهذه القصة. لقد تم التركيز عليها في تغريدات بيل جيتس، وأعمدة ديلان ماثيوز على موقع ڤوكس، وحتى في فيلم السعي – فيلم تحت تصنيف: التعريص الذاتي- عن رئيس معهد أمريكان انتربرايز آرثر بروكس. يحلم القائد المستقبلي لوادي السيليكون يوفال نوح هاراري به أثناء خلواته التأملية، ويعتقد توماس فريدمان أنه اكتشف ذلك أثناء انتظار أحد أصدقائه الوهميين، ويكررها المؤثِرون المتنفِّذون في جميع أنحاء العالم لأنفسهم وهم يسيرون إلى مكاتب وول ستريت اللاإنسانية (لتحقيق أفضل ما يمكنهم فعله). حتى أن ستيڤن بينكر قام بخدمةٍ رائعةٍ للإنسانية تمثَّلت في أخذ 600 صفحةٍ لتقديم نفس الحجة (لا تقلق، إنها قراءةٌ سريعةٌ – قطعةٌ وافرةٌ تتكون ببساطةٍ من رسومٍ بيانيةٍ تُظهر أسهم الأشياء الجيدة وهي تصعد لأعلى وأسهم الأشياء السيئة متجه ناحية الهبوطٍ).
هذا الهووس قد يبدو منطقياً بعض الشيء، فإن أخذنا تلك السردية على محمل الجد، فربما تكون سردية “لا تخف، كل شيءٍ أفضل الأن” هي الحجة الأكثر إقناعًا عن الرأسمالية العالمية. من المؤكد أن أغنى الأفراد قد يمتلكون قدر من الثروة غير متناسب بشكلٍ كبيرٍ من الثروة العالمية، وقد يتم تزوير القواعد لصالح الأغنياء، وقد يستمر مئات الملايين في العيش دون تلبية لأحتياجاتهم الأساسية لكن “الدويبس” يسرعون للإشارة إلى أن النظام الذي أنتج هذه الشروط قد فعل أكثر للفقراء من أي أحدٍ آخر. قد لا تكون الرأسمالية العالمية مثالية، لكنَّ الفوائد التي تجلبها -وهي القضاء على الفقر كما نعرفه- تفوق بكثيرٍ تكاليفها.
الدويبس: أختصار لجماعة#
“Don’t Worry, Everything is Better now” or DWEIB
كما كتب آرثر بروكس في عام 2017:
«علمني الاقتصاد أن إثنان مليار من إخواني وأخواتي قد نجوا من الفقر أثناء حياتي. كانت هذه معجزة العصر الحديث. كان علي أن أجد مصدرها… جميع الاقتصاديين في مجال التنمية تقريبًا، عبر الطيف السياسي السائد، وافقوا على التفسير الأساسي… باختصار، كان نظام الاقتصاد الحر الأمريكي، المنتشر في جميع أنحاء العالم، هو الذي أحدث معجزة مكافحة الفقر.»
لا عجب أن المدافعين المتحمسين عن الرأسمالية النيوليبرالية، مثل بروكس وبنكر وجيتس، يعتقدون بالفعل أنهم مناصرون حقيقيون للفقراء والمهمشين، أما اليسار بالنسبة لهم فهم مجرد أيديولوجيون رجعيون. بمجرد قبول سردية الدويبس أن الرأسمالية العالمية كانت بالفعل مسؤولة عن انتشال المليارات من الفقر وتحسين حياة الناس، حتى أكثر الفئات تهميشاً، بشكل جذري، عندها تبدو الدعوات للتغيير النظامي أو الهيكلي مُضللة في أحسن الأحوال وشريرة في أسوأ الأحوال. يتم تأطير المدافعين عن الوضع القائم كوكلاءَ للتقدم والعدالة الاجتماعية في حين يتم تصوير اليساريين الذين يدعون إلى التغيير إما على أنهم جهلةٌ عِميان أو غير مهتمين في الواقع بمساعدة المهمَّشين.
هذه القصة ليست مقتصرة على أولئك الذين يتماهون مع اليمين السياسي، أحد قادة يسار الوسط، الرئيس أوباما، يقول بأستمرار أشياء مثل: “السوق الحرة هي أكبر منتج للثروة عبر التاريخ، لقد أخرجت ملايين الناس من قبضة الفقر”. -حتى وإن اعترفوا بأن بعض الناس قد تُركوا (عمداً) مُتخلفين عن الركب-. على نحو متزايد، بدأ حتى التقدميون في تقبل مثل هذه السردية، فقد يكون المؤلف الذي صاغ الفقرة أعلاه والتي تتحدث عن “أرض الوفرة” أحد أخر الأشخاص الذين قد تتوقعهم: الصحفي الهولندي: (روتجر بريجمان) وهو ذاته نفس الشخص الذي احتل عناوين الصحف الرئيسية عندما أخبر نخبة مؤتمر دافوس أنهم بحاجة إلي البدء في دفع حصتهم العادلة من الضرائب، ثم سخر بشدة من تاكر كارلسون بسبب نزعته الشعبوية الزائفة.
ظاهرياً، يبدو وأن برجمان وكأنه اليساري النموذجي. فهو يُعلن بدون مواربة توجهاته الديمقراطية الاجتماعية، وينتقد بشدة مهن مثل المستشارين الماليين والصيارفة، ويدافع عن سياسات مثل: الدخل الأساسي، حدود مفتوحة و أسبوع عمل لمدة ١٥ ساعة. لكن، مثل كثيرين ممن عرفوا أنفسهم بأنهم يسار خلال العشر سنوات الأخيرة، هناك شيئاً ما مُعطل في برجمان؛ إنه يعتقد أن التحدي الأكبر في عصرنا ليست أشياء مثل الأنظمة المصممة على النهب، الظُلم والإستغلال، بل مشكلته الأساسية هي الافتقار للخيال. أنه يُنادي بأفكار كبيرة وجريئة، ليس لأنها ستجعل العالم أكثر عدلاً ولكن لأنها ستجعل السياسة أقل مللاً. فهو يتحدث عن أهمية (الإبتكار) و(الجدارة) (والقطيعة مع دولة الرفاه)، في حين أن مصطلحات مثل: الصراع الطبقي، توزيع السلطة، العنف البنيوي/ الهيكلي، تلك المفردات نادراً ما تدخل ضمن مصطلحاته السياسة.
بعبارة أخرى، فإن بريجمان هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة: عندما تعتقد أن نظامنا الاقتصادي الحالي قد جلب معه ازدهارًا غير مسبوقٍ للجميع، فإن النظرية السياسية مثل الصراع الطبقي والنضال الاجتماعي والجماعي يسقطان على جانب الطريق– وتبقى الراديكالية الوحيدة الباقية هي راديكالية الخيال والابتكار.
هذا هو السبب في أن سردية الدويبس هي أكبر تهديدٍ للمشروع اليساري. لم تعد مجرد سلاحٍ في يد اليمين السياسي – لقد بدأت في إصابة وشقّ اليسار من الداخل. إذا لم نعالجها، فسوف نجد أنفسنا، نحن اليساريون والمحاربون من أجل العدالة الاجتماعية والاشتراكيون، مجرد جزءٍ من حركةٍ خاسرةٍ أو ربما بلا حركةٍ على الإطلاق.
من حسن الحظ فإن سردية الدويبس ليست أكثر من خيالٍ مصنوعٍ بعناية. يتشكّل جوهرها من خمس خرافات متشابكةٍ حول الفقر، الرأسمالية، التنمية والتقدم. لنقم بتقييم هذه الخرافات واحدةَ تلوَ الأخرى.
الخرافة الأولي: لقد قضينا على الفقر المدقع تقريبًا في السنوات الأربعين الأخيرة.
هذا الرسم البياني من موقع (بيانات عالمنا) يروي قصة شديدة الأقناع، يُظهرالمُخطط البياني أن عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقرٍ مدقعٍ قد انخفض من حوالي ٩٠ في المائة من البشر منذ بداية الثورة الصناعية إلى حوالي ١٠ في المائة حتى اليوم. يبدو أن هذا الاتجاه واعدٌ للغاية لدرجة أنه في عام ٢٠١٥ توقع البنك الدولي أنه يمكننا القضاء على الفقر المدقع تمامًا بحلول عام ٢٠٣٠. ليس من العجب في شيء أن يكون الدويبس مهووسون بهذا الرسم البياني: بالنسبة لهم، فانه يمثل دليلاً موضوعياً وتجريبيًا على أن الرأسمالية العالمية هى بالفعل “المدّ الصاعد الذى يرفع جميع القوارب معه.”
هناك مشكلة واحدة تتعلق بهذا المخطط البياني وهي أنه مُضلل تماماً، ويمكن أعتباره مخطط مُهين للواقع الفعلي. أولاً فهو يدعي بأنه حصر عدد الأشخاص الذين يعانون من الفقر ابتداءاً من عام ١٨٢٠، وهذا كلام مُضلل وغير دقيق بالمرة؛ لم يبدأ البنك الدولي فعليًا في قياس الفقر حتى عام ١٩٨١، لذا فإن قاعدة البيانات المستخدمة لأرقام ما قبل عام ١٩٨١ تستند إلى تقديرات تقريبية وغير كاملة للناتج المحلي الإجمالي بدلاً من قياسات دقيقة للفقر.[١] إذا أردنا إجراء تقييم تجريبي لمعدلات الفقر المتغيرة ، يجب أن نركز على الفترة الزمنية بعد عام ١٩٨١،( ذلك التركيز، والذي من نواحٍ عديدةٍ، يخدم في الواقع سردية الدويبس).[٢].
منذ عام ١٩٨١، تُظهر بيانات البنك الدولي انخفاضًا حادًا في نسبة الأفراد الذين يعيشون في فقرٍ مدقعٍ: من قرابة نصف البشرية (٤٤ بالمائة) إلى مجرد نسبةٍ ضئيلةٍ (١٠ بالمائة). يبدو ظاهرياً أن هذه الأرقام مثيرة، هذه نتيجةٌ مثيرةٌ للإعجاب حقاً. مع ذلك، تحتوي هذه البيانات على عيبٍ أساسيِّ وخطير. هذه الأرقام لا تقول شيئًا عن ماهية الفقر، فهم لا يقولون شيئًا عن كيفية تعريفنا للفقر في المقام الأول.
يتم احتساب الفقر العالمي وفقًا لما يُسمى (خط الفقر العالمي) وهو تقدير دولي لمقدار الدخل اللازم لتلبية الاحتياجات الأساسية للحياة، مع تعديل طبقًا للقوة الشرائية لكل بلد. على سبيل المثال، تم تحديد خط الفقر الدولي الحالي من قِبل البنك الدولي عند ١.٩٠ دولارًا في اليوم، مما يعني أن كل شخص يكسب ببلدٍ ما، ما يعادل أقل من دولارين في اليوم الواحد يُعتبر “في فقرٍ مدقع.”، وما يبينه المخطط البياني، إذن، هو النسبة المئوية للناس في العالم الذين يكسبون الآن أكثر مما يعادل في بلدهم ١.٩٠ دولار في اليوم.
المشكلة هي أن ١.٩٠ دولار في اليوم، والذي هو خط الفقر العالمي، ليس مقياسًا ذا مغزى للفقر. تذكر أن ١.٩٠ دولارًا أمريكيًا في اليوم هو المعادل الدولي للعيش في الولايات المتحدة مقابل ١.٩٠ دولارًا أمريكيًا فقط في اليوم. يعرف أي شخص يعيش في الولايات المتحدة أن العيش على دولارين في اليوم غير كافٍ حتى لتحمل وجبة الإفطار، ناهيك عن التغذية الكافية أو المأوى أو الملابس (ويمكننا أن ننسى الرعاية الصحية). حسب دراسات الخبير الاقتصادي ديفيد وودوارد أن العيش عند خط الفقر بالنسبة للبنك الدولى يعادل: “٣٥ شخصًا يعيشون على حد أدنى واحد للأجور، مع عدم وجود مزايا من أي نوع: بلا عطايا، بلا فرص للاقتراض، دون جمع نفايات، دون أي استجداء أو تسول، أو مدخرات يمكن الاستفادة منها (رغم أن هذا كله يتم إدراجه بوصفه دخلاً في حسابات الفقر)، ولا توجد خدمات صحية أو تعليم مجاني (نظرًا لأن هذه ليست متاحة بشكل عام للفقراء). “[٣] يصبح هذا الخلل أكثر وضوحًا عندما نقارن بيانات الفقر ببيانات الجوع الدولية، وهو ما يكشف أن ما بين ١١٥ مليونًا و ١.٨ مليار شخص ممن يُفترض أنهم “انتُشلوا من براثن الفقر” وفقًا لمعايير البنك الدولي لا يمكنهم حتى تحمل ما يكفي من الغذاء لتلبية احتياجاتهم من السعرات الحرارية. [4] هذا التفاوت يدعو إلى التشكيك في شرعية ١.٩٠ دولار في اليوم. بعد كل شيء ، إذا كان “العيش فوق خط الفقر” لا يعني حتى أنه يمكن للمرء أن يتحمل احتياجاته الغذائية الأساسية، فكيف يمكن أن نسمي هذا الخط مقياسًا مفيدًا للفقر؟ [٥].
ليس من المستغرب أن يتفق معظم خبراء الاقتصاد التنموي والوكالات الدولية الجادة (بما في ذلك البنك الدولي نفسه) على أن الحد الأدني لخط الفقر العالمي البالغ ١.٩٠ دولار في اليوم منخفض للغاية – حتى وإن اختلفوا حول مدى ارتفاع مستوى خط الفقر العالمي-. تنص وزارة الزراعة الأمريكية على أن حوالي ٦.٧ دولارات في اليوم ضرورية لتحقيق التغذية الأساسية. يتفق العديد من المختصين على أن ٧.٤ دولارات هو الحد الأدنى لخط الفقر العالمي “الأخلاقي” (الذي من شأنه أن يسمح للفقراء بتحقيق متوسط العمر المتوقع الطبيعي). حتى اقتصادي التنمية تشارلز كيني (الذي تدفع مؤسسة بيل جيتس راتبه) يريد 10 دولارات في اليوم بينما يقول زميله لانت بريتشيت إن الحد الأدنى يجب ألا يقل، بأي حال من الأحوال، عن 15 دولارًا في اليوم.
عندما نضع أمام أعيننا هذه الأرقام ونفكر فيها بشكل صحيح ودقيق، تتغير صورة التقدم العالمي ضد الفقر بشكل كبير. كما يشير عالم الأنثروبولوجيا جيسون هيكيل، حتى لو استخدمنا خط الفقر المحافظ نسبيًا البالغ ٧.٤ دولارات في اليوم، نجد أن الفقر العالمي قد انخفض فقط من ٧١ بالمائة من الناس في عام ١٩٨١ إلى حوالي ٥٨ بالمائة اليوم – انخفاض بنسبة ١٣ بالمائة فقط. بالطبع، لا يزال هذا يمثل تقدمًا، لكنه بعيد كل البعد عن فكرة أننا قد قضينا على الفقر المدقع تمامًا.
لكن عندما ننظر إلى الأرقام المطلقة، فإن الأخبار تزداد سوءًا. هل تتذكر عندما كان آرثر بروكس يروج للأسواق الحرة لانتشال “أكثر من ملياري شخص” من الفقر؟ حسنًا ، تحت عتبة ٧.٤ دولارات في اليوم، اتضح أنه تمت إضافة ما يقرب من مليار شخص إلى صفوف فقراء العالم منذ عام ١٩٨١. فلنتفكر في تلك الأعداد لمدة دقيقة. هناك مليار شخص إضافي يعيشون في ظروف من الفقر المدقع اليوم مقارنة بما كان عليه قبل ٤٠ عامًا. هذا ليس سببا للاحتفال. إنها مأساة.
عندما نصل بعدد الأشخاص الذين يعيشون بأقل من ١.٩ دولار في اليوم إلى الصفر، كما يتوقع البنك الدولي، فإن الإيكونومست ستحتفل بالنهاية الحقيقية للمعاناة، وسيقوم ستيفن بينكر بكتابة كتابٍ احتفاليٍّ آخر، وسيحصل بيل جيتس على جائزة نوبل للسلام. وفي غضون ذلك، سيظل المليارات غير قادرين على تلبية معظم الاحتياجات الأساسية لأنفسهم ولأسرهم، وقد تستمر صفوفهم في الازدياد.
الخرافة الثانية: الرأسمالية العالمية مسؤولة عن المكاسب التي حققناها ضد الفقر
كما يشير معلقون أكثر خبرة مثل ديلان ماثيوز من ڤوكس نيوز، مجرد أن الناس لا يستطيعون تحمل ضروريات الحياة الأساسية، فهذا لا يعني أن حياتهم لا تتحسن. (على سبيل المثال، قد يرتفع دخلهم من ٥٠ سنتًا إلى ٢ دولارفي اليوم).بعبارة أخرى، بمعنىً آخر، لمجرد أننا لم نقترب من تخفيف حدة الفقر المدقع لا يعني هذا أننا لم نحقق تقدمًا كبيرًا في تقليص فجوة الفقر.
بالطبع، إن لم يمتلك الناس، على الأقل، الوسائل اللازمة لشراء ما يكفي من الغذاء لتلبية احتياجاتهم من السعرات الحرارية الأساسية -ناهيك عن الرعاية الصحية والسكن والمواصلات وما شابه ذلك- فلا يمكننا القول إنهم قد “أُنتشلوا من الفقر”. رغم ذلك، لدى ماثيوز وجهة نظر: بشكلٍ عامٍ، أصبحت الأمور على الأقل أفضل لفقراء العالم منذ عام ١٩٨٢.
السؤال إذن “لماذا؟”. هل يُعزى هذا التقدم إلى النموذج الرأسمالي العالمي للتنمية الذي تروج له المؤسسات الدولية والبلدان الغربية والاقتصاديون منذ أواخر الثمانينيات؟!
ليس تمامًا. بالنسبة للفقراء في معظم بلدان الجنوب، لم تتحسن أمورهم على الإطلاق. إن إلقاء نظرةٍ فاحصةٍ على البيانات تكشف أن المكاسب التي تحققت ضد الفقر العالمي خلال الأربعين سنةً الماضية تنبع أساسًا من منطقةٍ واحدةٍ: شرق آسيا. إذا أخذنا دولةً واحدةً فقط، الصين، خارج معادلة الفقر العالمية، فحتى تحت معيار خط الفقر البالغ ١.٩٠ دولار، نجد أن تعداد الفقراء فقرًا مدقعًا هو نفسه بالضبط كما كان في عام ١٩٨١. وعندما ننظر إلى النسب نجد تشابهاً أخر؛ كما هو موضحٌ في الرسم البياني أدناه، في حين أحرزت شرق آسيا تقدمًا ثابتًا في مكافحة الفقر، بدأت جنوب آسيا تشهد انخفاضًا في الفقر فقط بعد عام ٢٠٠٠ ، وحققت أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تقدمًا ضئيلاً للغاية.
يصبح تأثير شرق آسيا أكثر وضوحًا عند النظر إلى خط الفقر المحدد ب ٧.٤ دولارات يومياً. بينما يُظهر النظر إلى العالم ككلٍ تقدمًا متواضعًا ضد الفقر منذ عام ١٩٨١ (من ٧١ بالمائة إلى ٥٨ بالمائة)، كما لاحظ جيسون هيكيل فإن الصورة تتغير تمامًا عندما تُخرِج الصين من المعادلة؛ تحت خط الفقر ٧.٤ دولارات يومياً وإذا أستثنينا الصين، نجد أن أكثر من مليار شخصٍ قد تمت إضافتهم إلى صفوف فقراء العالم وأن نسبة من يعيشون في فقرٍمدقع بالكاد تزحزحت قليلاً. [٦]
لماذا هذا مهم؟ كما أثبت الخبير الاقتصادي (ها-جون تشانج) مرارًا وتكرارًا، فدول شرق آسيا التي حققت أكبر قدر من التقدم في مكافحة الفقر (أي الصين وكوريا واليابان) قد رفضت صراحةً مبدأ عدم التدخل في السوق، وهو مبدأ السوق الحرة، السر المقدس، الذي غالبًا ما يُعلن عنه كمفتاح سري للتنمية الاقتصادية. استفادت هذه البلدان من التعريفات الجمركية المرتفعة للغاية، وحماية الصناعات الوليدة من خلال إحلال الواردات، والابتكارات الغربية المقرصنة، والاستثمار في الشركات الضخمة المملوكة للدولة، والسماح بمستويات عالية من التضخم – وكلها تتعارض بشكل مباشر مع النيوليبرالية (أو كما يسميه تشانج نظام العته الجديد) نموذج التنمية هذا الذي يتميز بالتجارة الحرة والخصخصة وبراءات الاختراع الصارمة وإلغاء الضوابط والتقشف العام. [٧] في غضون ذلك، فشلت البلدان في أمريكا اللاتينية وأفريقيا التي اتبعت عن كثب مسار التنمية النيوليبرالية في التطور بنفس المستويات تقريبًا.
كما يوضح تحليل تشانج، لا يمكن أن يُنسَب إلى رأسمالية عدم التدخل الفضلُ في المكاسب التي تحققت ضد الفقر في السنوات الأربعين الأخيرة. إن كان من شيءٍ، فإن السياسات النيوليبرالية أعاقت هذا التقدم بشكلٍ كبير. على الأقل، فإن القصة أكثر تعقيدًا بكثيرٍ مما يريدنا “الدويبس” أن نعتقد.
الخرافة الثالثة: في حين أن نظامنا الاقتصادي الحالي ليس مثاليًا على الإطلاق، إلا أننا لا يمكننا تحمل المخاطرة بتجربة شيءٍ مختلف.
على العكس من ذلك تماماً، يبدو أنه لا يمكننا تحمل عدم تجربة شيء مختلف. كتب الاقتصادي ديفيد وودوارد في مجلة (وورلد إيكونوميك ريڤيو) أنه إذا حافظنا على أسرع معدل نمو للدخل كان يتمتع به أفقر الناس منذ عام ١٩٨١ (وبافتراض عدم وجود أي أزمات مالية أو انكماش اقتصادي)، فسوف يستغرق الأمر مائة عام للقضاء على الفقر عند خط فقر ١.٩٠ دولار في اليوم، ومائتين وسبع سنوات للقضاء على الفقر عند خط فقر ٧.٤٠ في اليوم، [٨] حسب الخبير الاقتصادي في منظمة أوكسفام، مجيد جمال الدين، أن الأمر سيستغرق أكثر من مائتي وخمسون عامًا حتى يصل دخل أفقر ١٠ في المائة إلى متوسط الدخل العالمي البالغ ١١ دولارًا في اليوم.
والأسوأ من ذلك، فكي نصل إلى مستوى ٧.٤٠ دولار في اليوم، يوضح وودوارد أن الناتج المحلي الإجمالي يجب أن يكون ١٧٥ ضعف مستواه الحالي، وعند هذه النقطة سيكون متوسط الدخل العالمي ١.٣ مليون دولار لكل سنة. بعبارةٍ أخرى، في ظل نظامنا الاقتصادي الحالي، يجب أن يكون متوسط الدخل أكثر من مليون دولار سنويًا حتى يتمكن الفقراء من العيش على سبعة دولارات ونصف في اليوم.
ولكن هناك كارثة حقيقية. ففي عام ٢٠١٧ ، أصدر ما يقرب من ٢٠ ألف عالم من ١٨٤ دولة “تحذيرًا للبشرية” بأن مستوي استهلاكنا على “مسار تصادمي مع العالم الطبيعي” مما سيؤدي إلى “بؤس واسع النطاق وفقدان كارثي للتنوع البيولوجي” إذا لم نبدأ في التصرف الآن لعكس هذا المسار المأساوي. جاء هذا تقرير الهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ والصادر عن الأمم المتحدة في الخريف الماضي (والذي انتقده بعض العلماء لأنه “متحفظ للغاية”) برسالة مماثلة: الوقت ينفد – يجب أن نتحرك الآن لخفض الانبعاثات بشكل كبير أو سوف تواجه البشرية عواقب وخيمة. [٩] وفي هذا الأسبوع فقط ، وصف تقرير، شارك في كتابته مسؤول تنفيذي سابق في مجال الوقود الأحفوري، تغير المناخ بأنه “تهديد وجودي قريب إلى متوسط المدى، يهدد الحضارة الإنسانية” مستشهداً بالنقل القسري لمليارات الأشخاص من ظروف غير صالحة للعيش، وانهيار الكثير من الزراعة في العالم ونقص المياه الهائل والكوارث الطبيعية على نطاق لم نشهده من قبل. ليس من المستغرب إذن أن تشير أفضل تقديراتنا إلى أننا بحاجة إلى شيء أقرب إلى “إنخفاض النمو” إن أردنا تحقيق مستويات أقل من انبعاثات الكربون، تلك المستويات اللازمة لتحقيق احترار معقولة.
إذا كنا نأمل في إنقاذ كوكبنا – أو على الأقل درء البؤس البشري الجماعي والكارثة المالية الجماعية – فلا يمكننا تحمل البقاء على مسارنا الحالي خلال السنوات العشر القادمة، ناهيك عن الـ ٢٥٠ عام القادمة. حجم النمو الاقتصادي المطلوب لتخفيف من حدة الفقر في ظل الرأسمالية يعني تغيرً مناخياً كارثياً يتجاوز المستويات التي يكون فيها، حتى أشد المدافعين عن المناخ، على استعداد لقول التكهنات.
إن الحجة الكلاسيكية التي تقول: “الرأسمالية معيبة، لكنها أفضل المتاح” حجة لا يمكن التوفيق بينها وبين الحقائق البيئية للقرن الحادي والعشرين. إذا واصلنا مسارنا الحالي، فإن الجدول الزمني الطويل للتخفيف من حدة الفقر وما ينتج عن ذلك من عدم المساواة سيكون أقل مشاكلنا. يمثل الوضع الراهن خطرًا كارثيًا على البشرية جمعاء. ما لا يمكننا تحمله هو تجاهل البدائل.
الخرافة الرابعة: تحاول الدول الغربية على الأقل تخفيف حدة الفقر؛ لولا مليارات الدولارات التي تمنحها الدول الغربية لبقية العالم، فمن يدري كم ستكون الأمور سيئةً في الجنوب العالمي؟
صحيح أن بلدان الشمال العالمي تقدم مليارات الدولارات في شكل دعم مالي للجنوب العالمي كل عام. لكن هذه الرواية تتغير بشكل كبير عندما ننظر إلى تدفق الأموال في الاتجاه المعاكس. في عام ٢٠١٦، قام باحثون من منظمة النزاهة المالية العالمية بإحصاء إجمالي التدفقات الخارجة الصافية بين البلدان الغنية والفقيرة، ووجدوا أنه بينما يتم تحويل ١.٣ تريليون دولار سنويًا من بلدان الشمال العالمي إلى بلدان الجنوب في شكل مساعدات أجنبية، استثمار أجنبي مباشر وتحويلات مالية، يتم تحويل ما يقرب من ٣.٣ تريليون دولار في الاتجاه الآخر (في الغالب بسبب التدفقات المالية غير المشروعة، على سبيل المثال: الشركات متعددة الجنسيات والتي تغش البلدان الفقيرة بخصوص عائدات الضرائب التي تشتد الحاجة إليها في بلدان الجنوب). [١١]
في الواقع، قدَّرت منظمة النزاهة المالية العالمية أن البلدان الفقيرة قد أرسلت ما مجموعه ١٦.٣ تريليون دولار في صافي التدفقات الخارجية إلى الشمال العالمي منذ عام ١٩٨٠. وبعبارةٍ أخرى، مقابل كل دولارٍ واحد من المساعدات التي يتلقاها الجنوب، فإن نفس الدول تخسر ٢٤ دولارًا. الحقيقة، كما يقول جيسون هيكيل: “المساعدات تتدفق بشكلٍ فعالٍ في الاتجاه المعاكس. البلدان الغنية ليست من يُنمِّي البلدان الفقيرة؛ البلدان الفقيرة هي من تقوم بتنمية البلدان الغنية.”
ليس السؤال الحقيقي هو: كيف ستكون الأمور سيئةً بدوننا – بل السؤال الحقيقي هو: كم كانت ستغدو الأمور أفضل لو لم تقم البلدان القوية بالتلاعب بقواعد الاقتصاد العالمي لصالحها.
الخرافة الخامسة: القضاء على الفقر أمر صعب للغاية – يجب فقط أن نستسلم.
في مواجهة المشاكل التي تبدو مستعصية على الحل، يكون أسهل شيء هو أن نفقد الأمل. ومع ذلك، فإن الفقر ليس مشكلة مستعصية – في الواقع، لدينا قدرة أكبر على القضاء على الفقر الآن أكثر من أي وقت مضى في التاريخ. يحسب جيسون هيكيل أن القضاء على الفقر من أجل الخير سيكلف اليوم ٣.٩ في المائة فقط من إجمالي دخل أولئك الذين يعيشون على أكثر من ضعف خط الفقر (يمكن أن تكون النسبة أقل لكل شخص إذا دفع فاحشي الثراء حصة أعلى). [١٣] وهذا أمر يستحق التكرار: يمكننا إنهاء الفقر المدقع غدًا وسيكلف أقل من 5 سنتات على الدولار. ما يعنيه هذا هو أن الفقر الذي نواجهه اليوم ليس نتيجة ندرة الموارد؛ لدينا ما يكفي للقضاء على الفقر العالمي ٢٠ مرة. [١٤]
بالنسبة لمعظم تاريخ البشرية، كان الفقر موجودًا لأن البشر يفتقرون إلى بعض الموارد الأساسية. يوجد الفقر اليوم لأننا فشلنا في توزيع هذه الموارد بطريقة عادلة حتى وإن كانت عن بعد. نحن نفتقر إلى الإرادة السياسية، وليس الوسائل الاقتصادية، للقضاء على الفقر بشكل نهائي.
وهذا يعيدنا إلى نقطة النهاية لكي تكتمل الدائرة: لماذا نفتقر إلى الإرادة لإنهاء الفقر العالمي؟ الجواب واضح: كل يوم تغمرنا القصص عن مدى روعة كل شيء بالفعل. قيل لنا إننا نعيش في عصر تقدم عالمي غير مسبوق. هذا، بفضل نظامنا الاقتصادي الحالي، ازداد رفاهية الإنسان في الأربعين سنة الماضية أكثر من ٤٠٠ سنة سابقة. كل ما نحتاج إلى فعله هو الجلوس وانتظار المد المتصاعد للرأسمالية العالمية لرفعنا جميعًا إلى المدينة الفاضلة.
يعتبر الإنكار من المهدئات القوية، ولا يوجد شكل أكثر فعالية للإنكار من التمسك بفكرة أن كل شيء في العالم على ما يرام. بدونه، قد نبدأ جميعًا في التساؤل عن نظام تستفيد منه القلة بينما يترك الكثيرين وراءه. بدون إنكار قد نبدأ في المقاومة. وبدون إنكار قد يبدأ الوضع الراهن في الانهيار أمام أعيننا.
الخطوة الأولى للتعافي هي التعرف على المشكلة. لقد احتفلنا بانتهاء الفقر بينما لا يزال المليارات غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية. لقد صبرنا أنفسنا بالقيام بالتبرعات والأعمال الخيرية بينما نستهلك أكثر بكثير مما نحن مستعدين لتقديمه. لقد أخطأنا في تحديد الأسباب الجذرية للتقدم الحقيقي. لقد قمنا بعبادة نظامًا اقتصاديًا لم ينتج عنه نتائج بغيضة أخلاقياً فحسب، بل يشكل تهديدًا وجوديًا لمستقبل كوكبنا.
بمجرد أن نحدق في هذا الواقع القاسي الماثل أمام أعيننا، يمكننا أن نأمل في أن نجد أنفسنا قادرين على تخيل عالمٍ أكثر عدلاً وإنصافًا.
الهوامش
[١]
قواعد البيانات التي تستدل بحجم الناتج المحلي الإجمالي، غير مكتملة إلى حد كبير بالنسبة لمعظم دول الجنوب (لا توجد بيانات تقريباً لأفريقيا). علاوة على ذلك، فإن التعويل على (الناتج المحلي الإجمالي) بمثابة إعطاء تفويض للفقر، وخاصة بالنسبة لبيانات الدول ما قبل الصناعية، والتي لا تشمل تقديرات الناتج المحلي الإجمالي السلع التي كان يتم الحصول عليها من خارج السوق، مثل الزراعة أو صيد الأسماك – والتي تصادف أنها كانت مصادر رئيسية للعيش في القرن التاسع عشر.
[٢]
بمجرد أن نعود إلى عالم ما قبل عام ١٩٨١، فإننا مُجبرون على النظر إلى حجم استفادة النمو الرأسمالي المبكر على حساب البشر اليد العاملة والتي كانت تحت استعمار الدول الغربية (تُشير التقديرات لحوالي ٥٠ مليون إنسان في القرن العشرين وحده) وسوق العبودية عبر الأطلسي والذي يشمل مالا يقل عن ١٢.٥ مليون إنسان من سكان غرب أفريقيا، بالإضافة إلى حجم إبادة الشعوب الأصلية في الأمريكيتين والذي يقدر عددهم بما يصل إلى ١٠٠ مليون إنسان– وكلها مبررات تحت عنوان الحصول على الأراضي الجديدة واستخراج الثروات الاقتصادية. ولمعرفة حجم الاستعمار، العبودية والإبادة الجماعية المرتبطة بالنمو الرأسمالي في مراحله المُبكرة، يمكن التحقق من كتب
جيسون هيكيل: The Divide
إيلين وود: The Origin of Capitalism: A Longer View
إدوارد بابتيست: The Half Has Never Been Told
[٣]
كما أوضح ريدي ولهوتي، فإن خط الفقر المُقدربـ ١.٢٥ دولار في اليوم (الذي استخدمه وودوارد في حسابه) كان في الواقع أعلى من القيمة الحقيقية لـ ١.٩٠ دولار في اليوم، مما يعني أن تقدير وودوارد متحفظ بالفعل.
[٤]
تحت خط الفقر السائد، يقدر البنك الدولي أن ٧٠٠ مليون شخص هم فقط من يعيشون في فقر. في نفس العام الذي تم فيه الكشف عن هذه الأرقام التي تخُص الفقر، قدرت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة أنه يوجد في العالم من ٨١٥ مليون إلى ٢.٥ مليار شخص ليس لديهم ما يكفي من الغذاء للحفاظ على أنماط حياتهم. تختلف هذه الأرقام لأن منظمة الأغذية والزراعة تحسب مستويات الجوع بشكل منفصل تماماً ووفقاً لافتراضات مختلفة حول النشاط البدني، وتحديدًا ما إذا كان المرء يعيش أسلوب حياة “نشط إلى حد أدنى” أو “نشط إلى حد ما” أو “نشط للغاية”، وكل منها يتطلب احتياجات مختلفة من السعرات الحرارية. إذا افترضت أن اولئك الـ “نشيطون بالحد الأدنى” والذي هم ٨١٥ مليون شخص يعانون من الجوع فقراء، فماذا عن ١.٥ مليار “نشيطون بشكل معتدل” و ٢.٥ مليار “نشيطون للغاية” إن لم يُحتسبوا فقراء؟!.
أما عن أرقام منظمة الفاو والتي تعتمد أرقام الجوع “الرسمي” البالغ ٨١٥ مليون شخص تحت مستوى “الحد الأدنى من النشاط”، والذي، وفقًا للخبراء، يجعله “يقلل بشكل خطير” من مدى انتشار الجوع في العالم (وكما يشير هؤلاء الخبراء على تلك المعايير بأنها معايير خيالية، لأن بأقل تقدير سوف نعرف بأن معظم فقراء العالم يقعون في الفئتين الأخيرتين بالنظر إلى أنهم غالباً ما يعيشون على العمل اليدوي). والأسوأ من ذلك، أنه حتى معايير وتقديرات أنماط الحياة المعتدلة لا تزال بعيدة كل البُعد عن تقديرات الجوع العالمي. لا تعتبر الأمم المتحدة الشخص “جائعًا” إلا إذا فشل في تلبية احتياجاته من السعرات الحرارية لمدة عام كامل. تخيل كم ستكون أعداد أولئك الذين يعانون من الجوع إذا أحصينا الأشخاص الذين عانوا من الجوع لمدة ثلاثة أو ستة أو حتى ثمانية أشهر من العام؟.
[٥]
المستويات المنخفضة بشكل مصطنع لخط الفقر البالغ ١.٩٠ دولار يوميًا ترجع جزئياً إلى سلسلة من العيوب الرئيسية في منهجية البنك الدولي لحساب الخط العالمي للفقر. على سبيل المثال، الطريقة التي يتبعها البنك الدولي الدولي لوضع المعايير الخاصة بخط الفقر العالمي عبر مختلف البلدان (المعروف بأسم معادل القوة الشرائية): (known as purchasing power parity or PPP)
تكون تقديرات مشوهة وضد فقراء العالم. تستند “سلة السلع والخدمات” المعيارية المستخدمة لحساب القوة الشرائية عبر مختلف البلدان إلى متوسط عادات الإنفاق لدى المستهلك الغربي. وهذا يمثل مشكلة لأن فقراء العالم ينفقون نسبًا أعلى بكثير من دخلهم على الضروريات الأساسية مثل الغذاء مقارنة بنظرائهم في شمال الكرة الأرضية. على حد تعبير توماس بوج: “في ٨٨ دولة فقيرة لدينا بيانات عنها، في كل بلد من الـ ٨٨ دولة، يُظهر تعادل القوة الشرائية للغذاء أن الفقراء يمكنهم شراء كميات أقل من الغذاء مما تتوقعه من مُعادل القوة الشرائية المُستخدم من قبل البنك الدولي.”
يقدر لاهوتي وريدي أن خط الفقر سيكون أعلى بنحو ٣٣ في المائة إذا تم أخذ عادات الإنفاق الفعلية للفقراء في الاعتبار (يرجع ذلك إلى حد كبير إلى حقيقة أن أسعار الغذاء العالمية قد ارتفعت بينما انخفضت أسعار السلع الاستهلاكية الأخرى).
[٦]
هذه الاتجاهات تساعد على نشر الجوع أيضًا. فكما أشار الخبراء في عام ٢٠١٢ جاء ٧٣ في المائة من التقدم المفترض للأمم المتحدة ضد الجوع من الصين وحدها (ويشيرون إلى سياسات الصين لإصلاح الأراضي كانت سبب رئيسي في القضاء على الفقر في الصين). في الواقع، شهدت العديد من البلدان النامية زيادة في عدد الجياع، حتى وفقًا لتعريف منظمة الأغذية والزراعة الأكثر تحفظًا.